سورة الجاثية - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجاثية)


        


قلت: {يغفِروا} قيل: جواب الأمر المذكور، أي: إن تقل يغفروا، وقيل لأمر محذوف، أي: قل لهم اغفروا يغفروا، وقيل: حذف لام الأمر، أي: ليغفروا، وقرأ أبو جعفر: {ليُجزي قوماً} بالبناء للمفعول، ونصب {قوماً} إما على نيابة المصدر، أي: ليجزي الجزاء قوماً، أو ليجزي الخيرُ قوماً، فأضمر الخير؛ لدلالة الكلام عليه، أو ناب الجار مع وجود المفعول به، وهو قليل.
يقول الحق جلّ جلاله: {قل للذين آمنوا يغفِروا للذين لا يرجون أيامَ الله} أي: يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون نِقَمه ووقائعه بأعدائه، من قولهم: أيام العرب لوقائعها، أو: لا يأمّلون الأوقات التي وقّتها الله تعالى لثواب المؤمنين، ووعدهم بالفوز فيها. قيل: نزلت قبل آية القتال ثم نُسخت، قال ابن عطية: ينبغي أن يقال: إن الأمور العظام، كالقتل والكفر مجاهدة ونحو ذلك، قد نَسخ غفرانَه آيةُ السيف والجزية، وإن الأمور الحقيرة، كالجفاءِ في القول ونحو ذلك، يحتمل أن تبقى مُحكمة، وأن يكون العفو عنها أقرب للتقوى. اهـ.
قيل: نزلت في عمر رضي الله عنه حين شتمه رجل من غفار، فهَمَّ أن يبطشَ به، فنزلت. وقيل: نزلت في ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في أذّى شديد من المشركين، قبل أن يُؤمروا بالقتال، فشكَوْا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا تكون الآية مكية. وقال ابن عباس: لما نزل: {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] قال فنحاص: افتقر رَبُّ محمد، فلما بلغ ذلك عُمر، طلبه بالسيف؛ ليقتله، فنزلت، فوضع السيف، وقال: والذي بعثك بالحق لا يُرى الغضب في وجهي. وقيل: في شأن أُبيّ ابن سلول، رأس المنافقين، لَمّا قال في غزوة المريسيع: ما مثلُنا ومثل هؤلاء- يعني المهاجرين- إلا كما قيل: سَمِّنْ كلبَك يأكلك، فبلغ ذلك عمر، فاشتمل السيف، يريد التوجه إليه، فنزلت. وعلى هذا تكون مدنية.
{لِيَجزيَ قوماً بما كانوا يكسبون} أي: إنما أُمروا أن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة. وتنكير {قوم} مدح لهم، كأنه قيل: لِيَجزي قوماً- أيَّما قوم، أو قوماً مخصوصين- بالصبر بسبب ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة، التي من جملتها الصبر على إذاية الكفار، والإغضاء عنهم، بكظم الغيظ، واحتمال المكروه، ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم، ويجوز أن يُراد بالقوم: الكفرة، وبما كانوا يكسبون: سيئاتهم، التي من جملتها ما كانوا يؤذون به المسلمين.
{من عَمِلَ صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} أي: لها الثواب وعليها العقاب، لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله، {ثم إِلى ربكم تُرجعون} فيجازيكم على أعمالكم، خيراً كان أو شرّاً.
الإشارة: مذهب الصوفية: العفو عمن ظلمهم، والإحسان إلى مَن أساء إليهم؛ لأنهم رحمة للعباد، ومقصدهم بذلك رضا الله، لأن الخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
قال اللجائي رضي الله عنه في شمائل الخصوص: قصد السادات بالعفو عمن ظلمهم، ابتغاء مرضاة الله، لا ابتغاء الثواب، فإنه تعالى يحب العفو، وتسمَّى به. ومقصدهم بالعفو أيضاً: قطع العداوة الحِقد عن الظالم، وترك الانتصار منه، بيدٍ أو لسان، استعداداً منهم لسلامة الصدور. ومقصدهم أيضاً: زوال الذِّلة عن الظالم في موقف الحساب، من أجل ما يطالَبُ به من الحقوق، وهو ضرب من الشفقة على العبيد، وهو مقام محمود، فشأنهم رضا الله عنهم إذا حلّ بالعباد في الموقف بلاء، أرادوا أن يكونوا للخلق فداء، فهذا أدنى مقام في العفو. اهـ.
وفي الحديث: «إذا جمع الله الخلائقَ يوم القيامة، نادى مناد: أين أهل الفضل، فيقوم ناس، وهم يَسير، فينطلقون إلى الجنة سِراعاً، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إنَّا نراكم سراعاً؟ فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون: ما فضلُكُم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلِمنا صَبَرْنا، وإذا جُهلَ عينا حَلُمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة: فنعم أجر العاملين».
قال القشيري بعد كلام: فمَن أراد أن يعرف كيف يحفظ أولياءَه، وكيف يُدمِّر أعداءَه، فليصبرْ على أيامٍ قلائل، ليعلم كيف صارت عواقبُهم، مَن عمل صالحاً فله مَهْناه، ومَن ارتكب سيئة قاسى بلواه، ثم مرجعه إلى مولاه. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد آتينا بني إِسرائيل الكتابَ والحُكْمَ} أي: الفصل بين العباد، لأن الملك لم يزل فيهم حتى غيّروا، أو: الحكمة النظرية والعملية والفقه في الدين، {والنبوة} حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثر في غيرهم. {ورزقناهم من الطيبات} ما أحلّ الله لهم من اللذائذ، كالمن والسلوى، وغيره من الأرزاق، {وفضلناهم على العالَمين} على عالمي زمانهم.
{وآتيناهم بيناتٍ من الأمر} دلائل ظاهرة من أمر الدين، ومعجزات قاهرة. قال ابن عباس: هو العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وما بُيّن لهم من أمره، وأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب، {فَما اختلفوا} في ذلك الأمر {إِلا من بعد ما جاءهم العلمُ} بحقيقته وحقيّته، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً له، {بغياً بينهم} أي: عداوة وحسداً، حديث بينهم، لا شك وقع لهم فيه، {إِن ربك يقضي بينهم يوم القيامة} بالمؤاخذة والجزاء {فيما كانوا فيه يختلفون} من أمر الدين.
الإشارة: كانت بنو إسرائيل في أول أمرها متمسكة بكتاب ربها، عاملة بما شرعت لها أنبياؤها، فرفع الله بذلك قدرها، حتى تحاسدوا، وتهاجروا على الدنيا والرئاسة، فأعقبهم الله ذل الأبد، فهذه سُنَّة الله تعالى في عباده، مَن تمسّك بالكتاب والسنّة، وزهد في الدنيا، وتواضع لعباد الله، رفعه الله وأعزّه، فإذا خرج عن هذا الوصف انعكس حاله إلى أسفل، والعياذ بالله.


يقول الحق جلّ جلاله: {ثم جعلناك} يا محمد بعد اختلاف أهل الكتاب، {على شريعةٍ} على طريقة عظيمة الشأن، ومنهاج واضح {من الأمر} الدين، وأصل الشريعة في اللغة: مورد الماء، أي: الطريق الموصلة إليه، ثم جعل للطريق الموصلة إلى حياة القلوب والأرواح؛ لأن الماء به حياة الأشباح، {فاتّبِعْها} بإجراء أحكامها في نفسك وفي غيرك، من غير إخلال بشيء منها. قال ابن عرفة: الخطاب له عليه السلام، والمراد غيره؛ لأنه معلوم الاتباع التام، أو: دم على اتباعها. اهـ.
{ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} أي: لا تتبع آراء الجهلة واعتقاداتهم الزائغة التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش، كانوا يقولون له صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى دين آبائك. {إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئاً} مما أراد بك إن اتبعتهم، أي: لن ينفعونك بدفع ما ينزل بك بدلاً من الله شيئاً إن اتبعت أهواءهم، {وإِنَّ الظالمين بعضُهم أولياءُ بعضٍ} فلا يُواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا مَن كان ظالماً مثلهم، {والله وليّ المتقين} أي: ناصر المتقين، الذين أنت قدوتهم، فدمْ على ما أنت عليه من توليته خاصةً، والإعراض عما سواه بالكلية.
{هذا بصائرُ للناس} أي: هذا القرآن واتباع الشريعة بصائر لقلوب الناس، كما جُعل روحاً وحياة لها، فإنَّ مَن تمسك بالكتاب والسنّة، وأمعن فيها النظر، وعمل بمقتضاهما، فُتحت بصيرته، وحيي قلبُه، {وهُدىً} من الضلالة {ورحمةٌ} من العذاب {لقوم يوقون} لمَن كَمُلَ إيمانه وإيقانه بالأمور الغيبية.
الإشارة: الشريعة لها ظاهر وباطن، وهو لُبها وخالصها، فالعامة أخذوا بظاهرها، فأخذوا بكل ما يُبيحه ظاهرالشريعة من الرخص والسهولة، ولا نظر عندهم لقلوبهم من النقص والزيادة، والخاصة أخذوا بباطنها، فأخذوا منها بالمُهم، وتركوا كل ما يَفتنهم أو ينقص من نور إيقانهم، فوصلوا بذلك إلى حضرة ربهم، فيقال للمريد: ثم جعلناك على طريقة واضحة من أمر الخاصة، فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ما يزيد في قلوبهم وما ينقص. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً إن أبعدك بميلك إليهم واتباع أغراضهم.
قال القشيري: {إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئاً} إن أراد بك نعمة، فلا يمنعُها أحد، وإن أراد بك فتنة فلا يصرفها عنك أحد، فلا تُعلِّقْ بمخلوقٍ فكرك، ولا توجه ضميرك إلى شيء، وثِقْ به، وتوكلْ عليه. اهـ. وأهل الغفلة بعضهم أولياء بعض، يتوالون على حظوظ الدنيا وشهواتها، {والله وليُّ المتقين} الذي اتقوا كل ما يشغل عن الله، {هذا بصائر للناس} أي: سبب فتح بصائرهم، {وهُدى} أي: إشارة لطريق الوصول، ورحمة للأرواح والقلوب، لقوم يوقنون، أي: لأهل اليقين الكبير.
قال القشيري: {هذا بصائرُ للناس} أنوار البصيرة إذا تلألأت انكشفت دونهما تهمةُ التجويز، ونظرُ الناس على مراتب، مَن نظر بنور نجومه، فهو صاحب عقل، ومَن نظر بنور فراسته فهو صاحب ظن، يُقَوِّيه لوْحُ، لكنه من وراء ستر، ومَن نظر بيقين فهو على تحكُّم برهان، ومَن نظر بعين إيمان فهو بوصف اتباع، ومَن نظر بنور بصيرة، فهو على نهار، وشمسه طالعة، وشمسه عن السحاب مصيحة. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4